فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمسُ والقمرُ والنجومُ والجبالُ والشجرُ والدواب} أي: ألم تعلم.
وقد بيَّنَّا في سورة [النحل: 49] معنى السجود في حق من يعقل، ومن لا يعقل.
قوله تعالى: {وكثير من الناس} يعني: الموحدين الذين يسجدون لله.
وفي قوله تعالى: {وكثير حق عليه العذاب} قولان.
أحدهما: أنهم الكفار، وهم يسجدون، وسجودهم سجود ظلّهم، قاله مقاتل.
والثاني: أنهم لا يسجدون؛ والمعنى: وكثير من الناس أبى السجود، فحق عليه العذاب، لتركه السجود، هذا قول الفراء.
قوله تعالى: {ومن يُهن اللهُ} أي: من يُشْقِه الله فما له من مُسْعِدٍ، {إِن الله يفعل ما يشاء} في خلقه من الكرامة والإِهانة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض}.
هذه رؤية القلب؛ أي ألم تر بقلبك وعقلك.
وتقدّم معنى السجود في البقرة، وسجود الجماد في النحل.
{والشمس} معطوفة على من.
وكذا {والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس}.
ثم قال: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب} وهذا مشكل في الإعراب، كيف لم ينصب ليعطف ما عمل فيه الفعل على ما عمل فيه الفعل؛ مثل {والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان: 31]؟ فزعم الكسائي والفرّاء أنه لو نصب لكان حسنًا، ولَكِن اختِير الرفع لأن المعنى وكثير أبى السجود؛ فيكون ابتداء وخبرًا، وتم الكلام عند قوله: {وكثير من الناس}.
ويجوز أن يكون معطوفًا، على أن يكون السجود التذلُّلَ والانقيادَ لتدبير الله عز وجل من ضعف وقوّة وصحة وسقم وحسن وقبح، وهذا يدخل فيه كل شيء.
ويجوز أن ينتصب على تقدير: وأهان كثيرًا حق عليه العذاب، ونحوه.
وقيل: تم الكلام عند قوله: {والدواب} ثم ابتدأ فقال: {وكثير من الناس} في الجنة {وكثير حق عليه العذاب}.
وكذا روي عن ابن عباس أنه قال: المعنى وكثير من الناس في الجنة وكثير حق عليه العذاب؛ ذكره ابن الأنباري.
وقال أبو العالية: ما في السماوات نجم ولا قمر ولا شمس إلا يقع ساجدًّا لله حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيرجع من مطلعه.
قال القُشَيري: وورد هذا في خبر مسند في حق الشمس؛ فهذا سجود حقيقي، ومن ضرورته تركيب الحياة والعقل في هذا الساجد.
قلت: الحديث المسند الذي أشار إليه خرجه مسلم، وسيأتي في سورة ياس عند قوله تعالى: {والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} [ياس: 38].
وقد تقدم في البقرة معنى السجود لغة ومعنًى.
قوله تعالى: {وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} أي من أهانه بالشقاء والكفر لا يقدر أحد على دفع الهوان عنه.
وقال ابن عباس: إن من تهاون بعبادة الله صار إلى النار.
{إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} يريد أن مصيرهم إلى النار فلا اعتراض لأحد عليه.
وحكى الأخفش والكسائي والفراء {وَمَنْ يُهنِ اللَّهُ فما له من مُكْرَمٍ} أي إكرام. اهـ.

.قال أبو حيان:

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن في السماوات وَمَن في الأرض}.
ومن {يسجد} سجود التكليف ومن لا يسجده، وعطف على ما من عبد من دون الله ففي {السماوات} الملائكة كانت تعبدها و{الشمس} عبدتها حمير.
وعبد {القمر} كنانة قاله ابن عباس، والدبران تميم، والشعرى لخم وقريش، والثريا طيىء وعطاردًا أسد.
والمرزم ربيعة، و{في الأرض} من عبد من البشر والأصنام المنحوتة من {الجبال والشجر} والبقر وما عبد من الحيوان، وقرأ الزهري {والدواب} بتخفيف الباء.
قال أبو الفضل الرازي ولا وجه لذلك إلاّ أن يكون فرارًا من التضعيف مثل ظلت وقرن ولا تعارض بين قوله: {ومن في الأرض} لعمومه وبين قوله: {وكثير من الناس} لخصوصه لأنه لا يتعين عطف {وكثير} على ما قبله من المفردات المعطوفة الداخلة تحت يسجد إذ يجوز إضمار {يسجد له} كثير من الناس سجود عبادة دل عليه المعنى لا أنه يفسره {يسجد} الأول لاختلاف الاستعمالين، ومن يرى الجمع بين المشركين وبين الحقيقة والمجاز يجيز عطف {وكثير من الناس} على المفردات قبله، وإن اختلف السجود عنده بنسبته لما لا يعقل ولمن يعقل ويجوز أن يرتفع على الابتداء، والخبر محذوف يدل على مقابلة الذين في الجملة بعده أي {وكثير من الناس} مثاب.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون {من الناس} خبرًا له أي {من الناس} الذين هم الناس على الحقيقة وهم الصالحون والمتقون، ويجوز أن يبالغ في تكثير المحقوقين بالعذاب فعطفت كثير على كثير ثم، عبر عنهم بحق عليهم العذاب كأنه قال: {وكثير} {وكثير من الناس حق} عليهم {العذاب} انتهى.
وهذان التخريجان ضعيفان.
وقرأ جناح بن حبيش {وكبير حق} بالباء.
وقال ابن عطية {وكثير حق عليه العذاب} يحتمل أن يكون معطوفًا على ما تقدم أي {وكثير حق عليه العذاب} يسجد أي كراهية وعلى رغمه إما بظله وإما بخضوعه عند المكاره، ونحو ذلك قاله مجاهد وقال سجوده بظله.
وقرئ {وكثير} حقًّا أي {حق عليهم العذاب} حقًّا.
وقرئ {حق} بضم الحاء ومن مفعول مقدم بيهن.
وقرأ الجمهور {من مكرم} اسم فاعل.
وقرأ ابن أبي عبلة بفتح الراء على المصدر أي من إكرام.
قال الزمخشري: ومن أهانه الله كتب عليه الشقاوة لما سبق في علمه من كفره أو فسقه، فقد بقي مهانًا لمن يجد له مكرمًا أنه يفعل ما يشاء من الإكرام والإهانة، ولا يشاء من ذلك إلاّ ما يقتضيه عمل العاملين واعتقاد المعتقدين انتهى.
وفيه دسيسة الاعتزال. اهـ.

.قال أبو السعود:

وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن في السماوات وَمَن في الأرض} الخ،
بيان لما يُوجب الفصلَ المذكور من أعمال الفرقِ المذكورةِ مع الإشارة إلى كيفيَّتِه وكونه بطريقِ التَّعذيبِ والإثابة والإكرام والإهانة إثرَ بيان ما يُوجبه من كونِه تعالى شهيدًا على جميع الأشياء التي من جُملتها أحوالُهم وأفعالُهم والمراد بالرُّؤيةِ العلم عبَّر عنه بها إشعارًا بظهورِ المعلوم والخطاب لكلِّ أحدٍ ممَّن يتأتَّى منه الرُّؤيةُ بناء على أنَّه من الجلاءِ بحيث لا يخفى على أحدٍ. والمرادُ بالسُّجودِ هو الانقيادُ التَّامُّ لتدبيره تعالى بطريق الاستعارةِ المبنيَّةِ على تشبيهه بأكمل أفعالِ المكلَّفِ في باب الطَّاعةِ إيذانًا بكونه في أقصى مراتب التَّسخُّرِ والتَّذلُّلِ لا سجودُ الطَّاعةِ الخاصَّةِ بالعُقلاءِ سواءٌ جُعلتْ كلمةُ من عامةً لغيرهم أيضًا وهو الأنسبُ بالمقام لإفادته شمولَ الحكم لكلِّ ما فيهما بطريقِ القرار فيهما أو بطريق الجُزئيَّةِ منهما فيكون قوله تعالى: {والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب} إفرادًا لها بالذِّكرِ لشُهرتِها واستبعادِ ذلك منها عادةً، أو جُعلت خاصَّةً بالعقلاء لعدم شمول سجود الطَّاعةِ لكلِّهم حسبما يُنبىء عنه قوله تعالى: {وَكَثِيرٌ مّنَ الناس} فإنَّه مرتفعٌ بفعل مضمرٍ يدلُّ عليه المذكور أي ويسجدُ له كثيرٌ من النَّاسِ سجود طاعةٍ وعبادةٍ ومن قضيَّتِه انتفاءُ ذلك عن بعضِهم، وقيل: هو مرفوعٌ على الابتداء حُذف خبرُه ثقةً بدلالة خبر قسميهِ عليه نحو حقَّ له الثَّوابُ، والأوَّلُ هو الأولى لما فيه من التَّرغيبِ في السُّجودِ والطَّاعةِ. وقد جُوِّز أنْ يكونَ من النَّاسِ خبرًا له أي من النَّاسِ الذين هم النَّاسُ على الحقيقةِ وهم الصَّالحون والمتَّقون وأنْ يكون قوله تعالى: {وَكَثِيرٌ} معطوفًا على كثيرٌ الأول للإيذانِ بغاية الكثرةِ ثم يخبر عنهم باستحقاقِ العذابِ كأنَّه قيل: وكثيرٌ من النَّاسِ {حَقَّ عَلَيْهِ العذاب} أي بكفرِه واستعصائِه.
وقرئ {حُقَّ} بالضمِّ و{حقًّا} أي حقَّ عليه العذابُ حقًّا {وَمَن يُهِنِ الله} بأن كتبَ عليه الشَّقاوةَ حسبما علمه من صرفِ اختياره إلى الشرِّ {فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} يُكرمه بالسَّعادةِ.
وقرئ بفتح الرَّاءِ على أنَّه مصدرٌ ميميٌّ {إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء} من الأشياء التي من جُملتها الإكرامُ والإهانةُ. اهـ.

.قال الألوسي:

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن في السماوات وَمَن في الأرض} الخ.
بيان لما يوجب الفصل المذكور من أعمال الفرق مع الإشارة إلى كيفيته وكونه بطريق التعذيب والإثابة والإكرام والإهانة، وجوز أن يكون تنويرًا لكونه تعالى شهيدًا على كل شيء، وقيل: هو تقريع على اختلاف الكفرة واستبعاد له لوجوب الصارف، والمراد بالرؤية العلم والخطاب لكل من يتأتى منه ذلك.
والمراد بالسجود دخول الأشياء تحت تسخيره تعالى وأرادته سبحانه وقابليتها لما يحدث فيها عز وجل، وظاهر كلام الآمدي أنه معنى حقيقي للسجود.
وفي مفردات الراغب السجود في الأصل التطامن والتذلل وجعل ذلك عبارة عن التذلل لله تعالى وعبادته وهو عام في الإنسان والحيوان والجماد.
وذلك ضربان سجود باختيار يكون للإنسان وبه يستحق الثواب وسجود بتسخير يكون للإنسان وغيره من الحيوانات والنباتات.
وخص في الشريعة بالركن المعروف من الصلاة وما جرى مجراه من سجود التلاوة وسجود الشكر انتهى.
وذكر بعضهم أنه كما خص في الشريعة بذلك خص في عرف اللغة به.
وقال ابن كمال: إن حقيقته على ما نص عليه في المجمل وضع الرأس، وقال العلامة الثاني: حقيقته وضع الجبهة لا الرأس حتى لو وضع الرأس من جانب القفا لم يكن ساجدًّا، وعلى هذين القولين على علاتهما قيل السجود هنا مجاز عن الدخول تحت تسخيره تعالى والانقياد لأرادته سبحانه.
وجوز أن يكون مجازًا عن دلالة لسان حال الأشياء بذلتها وافتقارها على صانعها وعظمته جلت عظمته، ووجه التنوير على هذا ظاهر وكذا التقريع على الاختلاف.
و{مِنْ} إما خاصة بالعقلاء وإما عامة لهم ولغيرهم بطريق التغليب وهو الأولى لأنه الأنسب بالمقام لإفادته شمول الحكم لكل ما فيها بطريق القرار فيهما أو بطريق الجزئية منهما، ويكون قوله تعالى: {والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب} أفرادًا لها بالذكر لشهرتها واستبعاد ذلك منها بحسب الظاهر في بادىء النظر القاصر كما قيل أو لأنها قد عبدت من دون الله تعالى إما باعتبار شخصها أو جنسها.
فالشمس عبدتها حمير.
والقمر عبدته كنانة.
وعبد الدبران من النجوم تميم.
والشعري لخم.
وقريش، والثريا طىء، وعطاردًا أسد.
والمرزم ربيعة، وعبد أكثر العرب الأصنام المنحوتة من الجبال.
وعبدت غطفان العزى وهي سمرة واجدة السمر شجر معروف، ومن الناس من عبد البقر.
وقرأ الزهري وابن وثاب {الدواب} بتخفيف الباء.
وخص ابن جني في المحتسب هذه القراءة بالزهري، وقال: لا أعلم من خففها سواه وهو قليل ضعيف قياسًا وسماعًا لأن التقاء الساكنين على حده وعذره كراهة التضعيف ولذا قالوا في ظللت ظلت وقالوا جان بالتخفيف وذكر له نظائر كثيرة.
وقوله تعالى: {وَكَثِيرٌ مّنَ الناس} قيل مرفوع بفعل مضمر يدل عليه المذكور أي ويسجد له كثير من الناس يجود الطاعة المعروف.
واعترض بأنه صرح في المغني بأن شرط الدليل اللفظي على المحذوف أن يكون طبقه لفظًا ومعنى أو معنى لا لفظًا فقط فلا يجوز زيد ضارب وعمرو على أن خبر عمرو محذوف وهو ضارب من الضرب في الأرض أي مسافر والمذكور بمعناه المعروف.
وأجاب الخفاجي بأن ما ذكر غير مسلم لما ذكره النحاة من أن المقدرة قد يكون لازمًا للمذكور نحو زيدًا ضربت غلامه أي أهنت زيدًا ولا يكون مشتركًا كالمثال المذكور إلا أن يكون بينهما ملاءمة فيصح إذا اتحدا لفظًا وكان من المشترك وبينهما ملازمة تدل على المقدر ولذا لم يصح المثال المذكور انتهى، وعتطفه بعضهم على المذكورات قبله وجعل السجود بالنسبة إليه بمعنى السجود المعروف وفيما تقدم بمعنى الدخول تحت التسخير أو الدلالة على عظمة الصانع جل شأنه.